الْأَجِنْدَةُ السُّعُودِيَّةُ وَالْمَنْظُومَةُ التَّعْلِيمِيَّةُ

بادئَ ذي بدءٍ لَابُدَّ من التَّشديدِ علَى قيمة الحرّيّة والدّيمقراطيّة في أيّ إصلاحاتٍ، سعوديّة أكانتْ أم عربيّة أمّ أعجميّة. وبعدُ.

غادرَ العربُ قطار الحضارة الإنسانيّة بعد سقوط قرطبة في الغرب سنة ١٢٣٦م، ثمّ سقوط بغداد في المشرق سنة ١٢٥٨م.

اخترع الألمانيّ جوتنبرج فنّ الطّباعة في حدود سنة ١٤٤٨م، بيدَ أنّ اعتزال العرب الحضارة الحديثة جعلهم لا يعبأون بأيّ اختراع إنسانيّ جديد ... 

، فنلاحظُ أنّ الاختراعات الإنسانيّة الجديدة لم تتوقّف منذ دخول العرب عصور الانحطاط، دونَ أن تُثيرَ لدى العرب الحدّ الأدنى من الاهتمام والتّقدير والاستحسان. فانطبقت عليهمُ الآية الكريمةُ: (صُمٌّ بُكْمٌ عُميٌ)(البقرة: ١٨)

لكن عندما غزا نابليون مصر سنة ١٧٩٨م، وأحضر معه ماكينة طباعة بحروف عربيّة، وغيرها من اختراعات حديثة، بدأ المصريّون والعرب يدركون قليلًا بعض ما فاتهم من اختراعات، ومعارف، وعلوم، دونَ أن يؤدّي ذلك إلى يقظة شاملة، أو نهضة متكاملة، فكان المريض لا يكادُ يستردُّ وعيه، حتَّى يعاود نومه.

بيدَ أنّ اللّافتَ للنّظر أنّ عدد ما طبعه العرب من الكتب منذ ذلك الوقت يعتبر قليلًا جدًّا مقارنة بما طبعه الغربيّون من كتب. كما أنّ العرب لم يجتهدوا في تحقيق تراثهم العلميّ العظيم، ونشره بأسلوب عصريّ، منذ أن عرفت المطابع طريقها إلى البلاد العربيّة.

وهكذا يمكن أنْ نقولَ إنّ عقاربَ السّاعة قد توقّفتْ عند العرب والمسلمين، أو كادت تتوقّف، منذ بداية عصور الانحطاط والظّلام في منتصف القرنِ الثّالث عشرَ الميلاديّ.

اجتهد العلماء في تفسير هذه الظّاهرة، وحاولوا اكتشاف أسبابها، وتوضيح مظاهرها. فأشار بعضهم إلى البذور الأساسيّة للانحطاط الّتي تمثّلت في معاداة العلم الّذي كان يونانيًّا في ذلك الوقت، واستشهدوا ببعض أقوال الحنابلة الشّهيرة، مثل (مَنْ تمنطق تزندق)، أو مثل توصية الغزّالي بالذّات الابتعاد عن الاشتغال بأيّ علم آخر غير العلوم القرآنيّة.

تطوّرات مفزعة، ومواقف مدمّرة، ونظرات قاصرة، وحسابات خاطئة، وتفسيراتٌ لاهية، وتأويلات فاسدة، وخزعبلات رائجة.

والنّتيجة هي ما نراه حتّى هذه اللّحظة: انسحاب من الحاضر، وهروب إلى الماضي، واعتزال عن الحضارة الحديثة، وتمجيد في الحضارة القديمة، وإرجاع كلّ شيء إلى قضاء اللّه وقدره، ومصادرة أيّ قدرة للإنسان على التّغيير.

أتذكّر أنّ صديقي محمّد عابد الجابري كان قد اقتبس مصطلح (العقل المستقيل) من أحد العلماء الغربيّين للإشارة إلى تراجع قيمة العقل عند العرب والمسلمين، خاصّة بعد انتصار الفكر الأشعريّ، وتراجع الفكر المعتزليّ (انظر: بغية المشتاق إلى فهم تطوّر عقيدة الأسلاف). وبعدُ.

أيّ منظومة تعليميّة ينبغي أن تقوم على ثلاثة أسسٍ: الماضي، والحاضر، والمستقبل. الماضي هو التّراث، والحاضر هو العلم الحديث الّذي لم يعد عربيًّا، والمستقبل هو الإبداع الّذي يعتمد على أصالة التّراث وأسس العلم الحديث.

تراثنا العربيّ الإسلاميّ هو حصيلة ما أنتجه العرب والمسلمون منذ فجر الإسلام وحتّى بدايات عصور الانحطاط في منتصف القرن الثّالث عشر الميلاديّ. أو بعبارة أخرى حصيلة العصر الذّهبيّ للحضارة الإسلاميّة الّذي استمرّ أكثر من خمسة قرون.

كان منَ المنطقيّ في ظلّ تخلّف العرب عن حضارة العصر أن يبقى تراثنا مهملًا، غير محقّق ولا منشور. وكيف يستطيع فاقد الوعي أن يدرك ثروة التّراث، وهو عاجز عن استرداد وعيه؟ وهكذا لم يلاقِ تراثنا العظيم من يهتمّ به، ويدرسه، ويحقّقه، ويترجمه، إلّا الأوروبيّينَ الّذين بدأت نهضتهم الحديثة في الوقت نفسه تقريبًا الّذي بدأ العرب يتراجعون، ويتقهقرون، ويخرجون من السّباق، بعبارة البطل مجدي حسين.

وكثيرًا ما قام الأوروبيّون بترجمة كتب عربيّة تراثيّة إلى اللّغات الأوروبيّة، قبل أن يقوموا هم، أو العرب، بتحقيق هذه الكتب. من ذلك مثلًا أنّ بني موسى  قد ألّفوا كتابهم المعروف في «الحيل» سنة ٨٥٠م، فقام المستشرق الإنجليزيّ دونالد هيل بترجمة هذا العمل العظيم إلى اللّغة الإنجليزيّة سنة ١٩٧٩م، قبل أنْ يقوم العالم السّوريّ أحمد يوسف الحسن بتحقيقه سنة ١٩٨١م.

وألّف ابن بُطلان (١٠٠١م-١٠٦٤م) كتابه الشّهير (تقويم الصّحّة)، وبعد نحو قرنين نقله الأوروبيّون إلى اللّغة اللَّاتينيّة، ثمّ ترجموه إلى الألمانيّة في منتصف القرن السّادسَ عشرَ الميلاديّ، وظهرت ترجمة فرنسيّة له في القرن العشرين، دون أن ينهض أيّ باحث عربيّ ويقوم بتحقيق نصّه الأصليّ!!

والأنكى من ذلك أنّ العرب عندما أرادوا الاستفادة من النّصوص التّراثيّة الّتي قام العلماء الأوروبيّون بتحقيقها، لم يراعوا ضميرهم، ولم يُظهروا الحدّ الأدنى من التّدقيق العلميّ، بل قاموا بتشويه النّصوص المحقّقة، وتلطيخها، واضعين بذلك بصمة جهلهم على تراث الأجداد الّذي لم يجد أحدًا يعتني به إلّا الأوروبّيّين!!

ويكفي أن نشير إلى تحقيق المستشرق الفرنسيّ دي ساسي لكتاب «مقامات الحريريّ» الّذي نشره سنة ١٨١٢م، حيث بذلَ فيه مجهودًا خارقًا، افتقدناه في معظم الطّبعات العربيّة اللّاحقة لهذا العمل الأدبيّ العظيم.

والخلاصة هي أنّنا ينبغي مراجعة موقفنا من حالة الانحطاط الّتي نعيشُ فيها منذ قرون. إذ لم يعد يكفي أن نشخّص المرض، ونصفه بدقّة، بل مطلوب منّا تقديم روشتة لعلاج ناجع. ولم يعد من المقبول الهروب من الواقع الأليم إلى الماضي السّحيق، لأنّ هذا سلوك الجبناء. بل ينبغي التّسلّح بعراقة الماضي، لمواجهة تحدّيات الحاضر والمستقبل. وبعدُ.

إذا تفحّصنا المنظومة التّعليميّة في العالم العربيّ عمومًا في عصرنا هذا، فلعلّ أسوأ، وأقبح، وأردأ ما فيها هو الفصل الفاضح بين المناهج التّعليميّة في المدارس والجامعات، وبين ما يحدث خارج أسوار المدارس والجامعات من حركة نشطة من التأليف والإبداع في الدّول المتقدّمة من ناحية، ومن حركة أقلّ نشاطًا تدور رحاها داخل عالمنا العربيّ في مجال تحقيق التّراث وترجمة العلوم. أتذكّر مثلًا أنّ الباحث المصريّ عبد السّلام هارون كان يقوم بعمل متميّز في تحقيق (رسائل الجاحظ)، دونَ أن يصل أيّ صدًى لإنتاجه إلى المدارس أو الجامعات المصريّة. والشّيءُ نفسه ينطبق على الإنجازات المتواضعة جدًّا في مجال التّرجمة خلال العقود الماضية، حيث سمعنا عن (مشروع ترجمة ألف كتاب)، لكنّ هذه التّرجمات ظلّت في كوكب، والمناهج التّعليميّة في مصر بالذّات في كوكب آخر. وكنتُ عندما استعلم عن عدد ما يطبعونه من نسخ من هذه التّرجمات، يقولون لي: (ألف نسخة) !! ألف نسخة لثلاثمئة مليون ناطق بالعربيّة !!

يقينًا فساد المنظومة الكُلّيّة يؤدّي لا محالة إلى فساد التّعليم، وغياب البحث العلميّ، وانقطاع صلة النّشء بالذّات بالعلم والمعرفة. ففي حين تحرص دولة متقدّمة مثل سويسرا على غرس حبّ المعرفة في مواطنيها من المهد إلى اللّحد، نلاحظ عكس ذلك في عالمنا العربيّ، حيث لاحت ظاهرة (كراهية العلم والكتب) بين تلامذة المدارس وطلبة الجامعات بالذّات، نظرًا لغياب الظّروف المناسبة لتحصيل العلم، وفهمه، واستيعابه. وليس يوجد أخطر من ذلك على أيّ مجتمع يطمح في منافسة الأمم المتقدّمة. فإذا أدّت أنظمتنا التّعليميّة إلى قتل حبّ المعرفة والفضول لدى أجيالنا الصّاعدة، فلن ينتظرنا إلّا الهلاك والاندثار.

صحيح أنّ بعض أو معظم دولنا العربيّة قد مرّت، ومازلت تمرّ بعصور استعماريّة مباشرة، أو بالوكالة، وصحيح أنّ الاستعمار كان يحارب العلم دائمًا، وصحيح أنّ أصل الاستبداد هو القاعدة الّتي وضعتها الإمبراطوريّة الرّومانيّة القديمة، وهي قاعدة (اللّعب والخبز)، بهدف تلهية النّاس، وصرفهم عن التّفكير، إلّا أنّ المصلحين دائمًا ما طالبوا بإصلاح التّعليم.

وبعدُ.

بصرف النّظر عن التّطوّرات التّاريخيّة، وارتباط تأسيس دول الخليج بالاستعمار الإنجليزيّ ثمّ الهيمنة الأمريكيّة في العالم، مازالت غالبيّة العرب والمسلمين تنتظر من السّعوديّة دورًا قياديًّا في جميع مجالات الحياة. ومن المؤسف له أنّ السّعوديّة قد قصّرت جدًّا في القيام بهذا الدّور. وعلى الصّعيد الثّقافيّ بالذّات تتضاءل جدًّا حصيلة ما قدّمته السّعوديّة للثّقافة العربيّة في مجالي التّرجمة وتحقيق التّراث، مقارنة بالإنجازات العظيمة الّتي قدّمتها دولة الكويت الصّغيرة إلى العرب في خلال سلسلة (عالم المعرفة) مثلًا، أو مقارنة ما قدّمته مصر من خلال أعداد الكتب الّتي ترجمها المصريّون إلى اللّغة العربيّة، أو النّصوص الّتي قام الباحثون المصريّون بتحقيقها من التّراث العربيّ القديم.

وهنا أيضًا ليس يجوز الاكتفاء بالتّشخيص، أو البكاء على اللّبن المسكوب، بل ينبغي تقديم مقترحات عمليّة براجماتيّة، لإصلاح هذا الخلل، وتجاوز هذا التّقصير.

والإصلاح  هنا يتمثّل في ضرورة العمل في إطار رؤية واضحة المعالم. ففي التّرجمة مثلًا هناك فوضى عارمة بالمعنى الحرفيّ للكلمة تسيطر على السّاحة العربيّة منذ عقود، حيث تسير حركة التّرجمة بطريقة عشوائيّة، وبمبادرات شخصيّة، وبدون أيّ رؤية وطنيّة، أو قوميّة، تحدّد مسبقًا للنّاس ما الّذي نريد ترجمته بالضّبط، وما الّذي ينبغي نقله من العلوم إلى اللّغة العربيّة. أتذكّر مثلًا أنّ مسؤولًا حكوميًّا كبيرًا في مصر، كان يترأس المجلس القومي للتّرجمة، تعوّد على تشجيع المصريّين على التّرجمة بمقولة شهيرة: (ترجموا أيّ شيء، وسوف ننشره لكم)!! وهذا يمثّل الفوضى بعينها!! إذ ليس المطلوب هنا أن نترجم الرّوايات البوليسيّة، والأعمال السّخيفة، بل ينبغي أن يكون لدينا أهداف واضحة من أي نشاط في حقل التّرجمة. هل نريد الإمعان في تلهية النّاس، وشلّ تفكيرهم، من خلال روايات شبيهة بالمسلسلات التّليفزيونيّة الرّمضانيّة في مصر؟ أم نريد أن نترجم من أجل التّقدّم، ومن أجل سدّ الفجوة الّتي صارت تفصلنا عن حضارة العصر؟

أتذكّر أنّني نشرتُ قبل نحو عشرين عامًا دراسة عن (التّراث العربيّ) في صحيفة (العربيّ) اللّندنيّة، فلمّا قرأها الدّاعية المصريّ عبد الحليم خفاجي، اتّصل بي، ولخّص لي مضمونها قائلًا: «أنا فهمت من دراستك وجود ثروة عظيمة لدينا من التّراث العلميّ في جميع ميادين الحياة. والمفروض علينا الآن أن ندعو أصحاب كلّ تخصّص إلى القيام بتحقيق المخطوطات الّتي تخصّ علمهم. فنقول لأطبّائنا: حقّقوا المخطوطات الطّبّيّة، ونقول للصّيادلة: حقّقوا مخطوطات البيرونيّ وغيره. ونقول لعلماء الزّراعة: حقّقوا ابن ليون وابن وحشيّة، ونقول للحقوقيّين: حقّقوا كتب الحيل، ونقول لعلماء الرّياضة: حقّقوا كتب الحساب والجبر والهندسة، إلخ».

هذه هي الحلقة الغائبة حتّى الآن، أو هي حلقة من حلقات كثيرة غائبة عنّا. مطلوب من المتخصّين في كلّ فرع من فروع العلم الاهتمام بالماضي، والحاضر، والمستقبل، أو بعبارة أخرى دراسة التّراث، وترجمة العلوم، والمساهمة في تشكيل المستقبل بإبداعاتهم الخاصّة.

أو بعبارة أخرى الطّبيب العربيّ اليوم مطلوب منه الإلمام بإعمال ابن سينا، والمجوسي، والرّازيّ، ثمّ دراسة ما أنجزه الغربيّون من أعمال في العصر الحديث، وبعد هضم الانثين جميعًا، فهو مطالب بتقديم إنجازه الشّخصّي، وإضافته للعلم الحديث، وإسهامه في تطوير الموجود.

ولعلّ أهمّ ما يميّز كبار العلماء المسلمين في عصر ازدهار الحضارة الإسلاميّة هو (استيعاب) الموجود، ثمّ وضع (إضافة) عليه. فالرّازيّ وابن سينا وابن النّفيس والزّهراوي لم يكتفوا بدراسة أبقراط وجالينوس، بل تجازوا هذا بوضع بصماتهم الشّخصيّة على الطّبّ والجراحة، أي أنّهم درسوا، ثمّ بحثوا، ثمّ أبدعوا. ولهذا السّبب تحرص بعض الدّول اليوم على التّمييز بين الجامعات (الدّراسيّة)، والجامعات (البحثيّة)، فالدّراسة تعني معرفة ما أنجزه السّابقون، والبحث يعني تطوير ما أنجزه السّابقون. وابن البيطار (١١٩٧م-١٢٤٨م) الّذي دخل التّاريخ بموسوعته الشّهيرة «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» كان عليه أن يستوعب أوّلًا تراث ديسقوريدوس (٤٠م-٩٠م)، وجالينوس (١٣٠م-٢٠٠م)، قبل أن يُضيف هو ما توصّل إليه من نتائج في علم الأدوية والأغذيّة. ولعلّ عبد الوهّاب المسيري (١٩٠٣٨م-٢٠٠٨م) يُمثّل من معاصرينا حالة شبيهة بالنّماذج السّابقة، حيث أراد في موسوعته عن «اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة» تقديم تاريخ شبه كامل لموضوع بحثه. وهذه النّماذج قليلة ونادرة في عالمنا العربيّ في هذا العصر.

نستطيع أن نلخّص أوضاعنا اليوم كما يلي: ١- لدينا نظام تعليميّ ناقص، وضعيف، وقاصر، يقوم على الحفظ، وليس على الفهم، ولا يعبأ بأيّ ترجمات جديدة، أو يراعي أيّ نصوص تراثيّة محقّقة، أو تكون له عين على ما يجري ويتطوّر في المجتمعات الحديثة، ٢- قصور المنظومة التّعليميّة نتج عنه أيضًا جهل شبه مطبق بعبقريّة اللّغة العربيّة، وعدم الإلمام الكافي باللّغات الأوروبيّة الّتي أصبحت لغات العلم في العصر الحديث: الإنجليزيّة، والألمانيّة، والفرنسيّة. ٣- تخّرج جامعاتنا العربيّة سنويًّا عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الطّلبة الّذين لم يحصلوا من العلم إلّا قشورًا بسيطة، فيسهمون بدورهم، ليس في إصلاح المجتمع، بل في جرجرته نحو الخلف. ٤- إصلاح نظام التّعليم في العالم العربيّ يتطلّب وضع رؤية طموحة، واضحة، متكاملة، تهدف إلى استيعاب الماضي المتمثّل في تاريخنا وتاريخ الآخر، وتطمح إلى فهم الحاضر، بدراسة العلم الحديث، وتتطلّع إلى تشكيل المستقبل، بالإبداعات الذّاتيّة. ٥- لابدّ أنْ يعمل أصحاب كلّ تخصّص على هذه الجبهات الثّلاث في وقت واحد: الماضي والحاضر والمستقبل، أو التّراث القديم والعلم الحديث والسّعي إلى المشاركة في إبداع الجديد. فيدرسُ طلبة البلاغة كتاب (الخطابة) لأرسطو، ثمّ (أسرار البلاغة) لعبد القاهر الجرجانيّ، قبل أنّ ينتقلوا إلى علوم البلاغة في العصر الحديث عند الأوروبيّين. والشّيءُ نفسه ينطبق على طلبة الطّبّ، لا نريد تخريج طالب طبّ في الجامعات العربيّة لا يعرف شيئًا عن أعمال الرّازيّ وابن سينا وابن النّفيس، فضلًا عن منجزات الحضارة الحديثة، بل نريد رؤيةَ أطبّاء عربٍ ملمون بتراثهم، وتراث اليونان، ويعرفون جيّدًا ما أضافه الأوروبيّون للعلوم الطّبّيّة، ونحثّهم على تقديم (إضافة)، والإسهام في تطوير ما تمّ إنجازه حتّى هذه الّحظة.

 

(رؤية ٢٠٣٠) مطالبة بالتّركيز على الجودة، والكيف، وليس على الكم. إذ يوجد لدينا اليوم عدد كبير من (مراكز) أبحاث (مزعومة)، لا نكاد نشعر بأيّ منجزات لها. والأفضل هنا هو الاقتصار على عدد محدود من مراكز الأبحاث (الحقيقيّة) الّتي تُخرج أعمالها المتميّزة للنّاس، ونشعر بجهودها، ونلمس منجزاتها. نريد اللّحاق بحضارة العصر اليوم قبل غدٍ. وحضارة العصر لا تعترف إلّا بالجودة العالية.

د / ثابت عيد 

زيورخ - السادس والعشرين من شهر يونيو 2017م

 

 

 

© 2017 Eid Media. All Rights Reserved.